اذا يمكن للعاملين في الاتصالات التسويقية والعلاقات العامة في منطقتنا أن يتعلموا من الانتخابات الرئاسية الامريكية؟ هذه بعض الأفكار:
حاولت منذ عدة شهور أن أتابع الانتخابات الأمريكية من منظور مختلف، يتصل بحقيقة كونها أكبر مهرجان تطبيقي لفنون الاتصال ومهارات العلاقات العامة، الجماهيرية منها والشخصية. وإذا كانت الانتخابات بشكل عام تعد اختبار قوة لمهارات العلاقات العامة، فإن الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الولايات المتحدة، ومن قبلها الانتخابات الرئاسية الفرنسية، مثلتا دون شك أنموذجا لنجاح العلاقات العامة الشخصية المرتبطة بالكاريزما والطموح والتجديد.
وإذا أخذنا المرشحين اللذين خاضا الانتخابات الأخيرة، نستطيع ملاحظة مسارين واضحين ميزا كل مرشح عن الآخر، فبينما ركز أوباما على العلاقات العامة والاتصال الجماهيري، نجد أن ماكين وقع في فخ البروباغندا "الدعاية" إلى حد كبير، حتى أن بعض المراقبين ربط تراجع شعبيته بحجم البروباغندا المستخدمة في خطاباته وحملاته. (لعلكم تذكرون على سبيل المثال ادعاءه أن أوباما مسلم اشتراكي بعد شهور قليلة من اتهامه بعضوية كنيسة متشددة ثم الزعم إنه سيزيد الضرائب على الجميع فيما أي تلميذ أمريكي يدرك أن خطة أوباما لزيادة الضرائب تشمل أقل من عشر الأمريكيين).
إذن، كان هنالك من ناحية عملية انتخابات بين العلاقات العامة والدعاية! في العام 2004، كانت الدعاية هي التي فازت لأنها عادة ما تكون أكثر قبولا في زمن الحرب (على الإرهاب أو غيره)، لكن الظروف المحيطة بانتخابات هذه السنة، وخاصة بعد انقشاع العتمة عن حقيقة الحرب، لم تترك مجالا حتى لأسير حرب سابق مثل ماكين أن ينجح فيما نجح فيه معظم الرؤساء الجمهوريون الذين فازوا في العقود الأخيرة.
هزيمة البروباغندا
تعتمد الدعاية (أو البروباغندا) على تقديم معلومات غير صحيحة أو تفسيرات مختلقة للأحداث وبالتالي محاولة استقطاب الجمهور على أساسها، وهي في هذا السياق من أهم الأسلحة التي تستخدمها الأيديولوجيات الشمولية في تسويق نفسها خاصة وأنها تسمح بتقديم تفسيرات متعسفة للأحداث وقراءات غير سليمة للحقائق والأرقام. لذلك كان مفاجئا أن يعمد المرشح الجمهوري في الانتخابات الأمريكية الأخيرة إلى الاعتماد بشكل كبير ورئيسي على الدعاية كمكون أساسي للشق الاتصالي في حملته الانتخابية.
وبالطبع إذا أخذنا بعين الاعتبار تدهور شعبية سياسات الجمهوريين، خاصة مع الأزمة الاقتصادية الأخيرة وسياسات الرئيس بوش التي أصابت المواطن الأمريكي العادي في مقتل، وعدم وجود بديل جدي أو منطقي لدى ماكين يبعده عن هذه السياسات، يصبح مفهوما لماذا كان التركيز على الدعاية خياره الأمثل. ولم تخل حملة أوباما من دعاية مماثلة لكن بنسبة أقل، وكعامل ثانوي، مثل التركيز المفرط على ثروة ماكين والخلط بينها وبين ثروة زوجته، وارتباطه بجورج بوش وما إلى ذلك.
الدرس المهم هنا يتمثل في أن هذه الدعاية، ومن الجانبين، لم تقنع أحدا (إلا من كان مستعدا لذلك بسبب مواقف مسبقة)، وهي حقيقة مهمة لأن المجتمعات التي يتاح فيها تبادل المعلومات بشكل مسؤول وحر لا تنجح فيها الدعاية إلا ما ندر (مثل حالة الحرب كما أسلفنا). كما أن التأثيرات المتراكمة لعصر المعلومات جعلت الجمهور أكثر قدرة على نقد وغربلة المعلومات التي يتلقاها والحكم على سلامتها بشكل أكثر موضوعية ودقة.
هل يبدو غريبا، إذن، التذكير أن ماكين الذي اختار البروباغندا لا يجيد حتى استخدام الكمبيوتر، بينما يشكو أوباما من كثرة اعتماده على البلاكبري. وعلى طريقة كلنتون، نقول لكل من يحبون البروباغندا: إنه عصر المعلومات، يا.. ذكي!
العلاقات العامة وليس الحملة الإعلامية فقط
سواء في حالة ساركوزي أو اوباما، نحن أمام حالة شاب ابن مهاجر استيقظ ذات صباح وحلم أن يصبح رئيسا لبلاده! الأمر يتجاوز هامش الديموقراطيات الغربية إلى دور العلاقات العامة الشخصية التي تتجاوز بالضرورة مجرد الحملات الإعلامية، وإنما تتوسع لتشمل بناء الثقة بشكل متدرج وتطوير العلاقات مع أطياف المجتمع المعني والعمل المتأني والمتواصل للوصول إلى هدف واضح. دعوني أذكركم هنا أن أوباما كان أول عضو أمريكي من أصل أفريقي في مجلس الشيوخ، وأن كثيرا من الديمقراطيين بدؤوا منذ ذلك الوقت (عام 2005) التعامل معه باعتباره الأوفر حظا لاستعادة البيت الأبيض، ولكن ذلك لم يأت من فراغ.
عمل المحامي وأستاذ القانون بجامعة شيكاغو باراك حسين أوباما الابن منذ انتخابه عضوا في المجلس التمثيلي لولاية إلينوي عام 1997 على نسج مجموعة متشابكة من العلاقات على عدة مستويات، الولاية لضمان انتخابه عنها للكونغرس، والحزب الديموقراطي لضمان موقعه على خارطة الترشيحات سواء للكونغرس أو للرئاسة، وعلى الصعيد الوطني لتقديم نفسه للأمة الأمريكية.
في ذلك كله كانت الصورة التي رسمها أوباما لنفسه كسياسي مجدد وإصلاحي وبعيد عن النخبة القديمة المرتبطة بمجموعات المصالح (وما أكثرها) وقريب من الناس وفي المقدمة الشباب، وهي الصورة التي استفاد منها حتى في الانتخابات التمهيدية للحزب الديموقراطي، خاصة حين أبعد نفسه عن القضايا ذات الجدل الأخلاقي المختلفة مثل زواج المنحرفين وما إلى ذلك.
ثم حين انتقلت الأمور إلى مواجهة الجمهور مباشرة استخدم أوباما تقنيات خطابية مختلفة، بحيث جعل الكثيرين من المتلقين يتعاملون مع خطابته باعتبارها الإجابات التي ينتظرون على الأسئلة التي تدور في خلدهم. نعم، لقد استفاد كثيرا من خبرته المركبة كمحام وكأستاذ، لكنه لم يمارس الأستذة وتجنب الدخول في مهاترات جانبية كالتي كان خصمه يحاول جره إليها. كما استفاد كثيرا من حداثة عهده بالسياسة بحيث قلل السلبيات والمآخذ التي يمكن تسجيلها عليها مقابل سجل حافل من السنوات الطوال لمنافسه.
ولعلكم لاحظتم أن أوباما لم يقدم نفسه يوما باعتباره أسود أو أمريكي من أصل إفريقي أو داعية حقوق مدنية، فإضافة لكونه غير معني بذلك بسبب تنشئته المختلفة، فإنه كان يدرك ومن تجربتيه التمثيليتين السابقتين أن هكذا شعارات قد تفيده على صعيد محلي، ولكنه ستلعب ضده على صعيد وطني.
لقد اختار أوباما رسائله ورسم صورته الشخصية بعناية ومهارة، ونسج حولها شبكة علاقات بشكل ناجح، لكن المشكلة التي وقع فيها تمثلت في أنه بشكل أو بآخر أفرط في تقديم الأمل. صحيح أن السبب يعود جزئيا لحجم المشاكل التي سيرثها عن جورج دبليو بوش، لكن المشكلة أن الإفراط في الأمل يجعل حتى أكبر الإنجازات يبدو ضئيلا أمام الأمل، وهو ما قد يؤثر بشكل كبير على صورته في الانتخابات القادمة.
أما ماكين، فالحقيقة أنه بقي أسيرا في رسم صورته الشخصية لما يعرفه الجميع عن قتاله وأسره في فيتنام، متناسيا حقيقتين الأولى أن بطولات فيتنام لا تثير الإعجاب إلا في نفس الأمريكيين البيض (هذه الانتخابات حسمها الناخبون غير البيض)، خاصة حين يكون المقصود قصفا جويا لمناطق مدنية، والثانية أنه لم يكن الوحيد الذي قاتل أو أسر أو أصيب. وقد استمر في رسم هذه الصورة بهذا الشكل حتى ليلة الاقتراع حين أعاد تأكيد هذه الفكرة (عن القتال دفاعا عن البلد) في رسالة بريد إلكترونية أرسلها للناخبين طالبا منهم مساعدته على صناعة التاريخ. وقد بدا إصراره على القتال غريبا في الوقت الذي يشكو فيه الناس من تأثيرات حربين مدمرتين على مصروف البيت، وليس الاقتصاد فقط.
ماهو درسنا هنا؟ لاحظوا أننا لم نتحدث عن الحملة الإعلامية، وذلك لسبب بسيط، فهي وعاء ناقل أي وسيلة وليست هدفا بحد ذاته. أما الأهم فهو بناء العلاقات وترسيخها، وهو أمر صحيح سواء كنا نتحدث عن انتخاب رئيس أو بناء صورة رئيس تنفيذي أو ترويج وبناء سمعة علامة تجارية... دعوا الناس يثقون بكم! على طريقة كلنتون مرة أخرى، نقول للذين يختصرون العلاقات العامة في الحملات الإعلامية: إنها العلاقات.. يا ذكي!
الصورة والألف كلمة
الصور في عالم اليوم (سواء الصور الفوتوغرافية أو المتلفزة) تلعب دورا في غاية الأهمية والتأثير في بناء العلاقات والصورة الشخصية. بين المرشحين، أجاد أوباما اللعب على هذا الوتر بشكل مبكر، ولعلكم تذكرون في بدايات حملته الانتخابية لنيل ترشيح الحزب الديموقراطي حين ذهب في إجازة أنه اصطحب مجموعة من المصورين الصحفيين وسرعان ما تلقفت الصحافة الشعبية والاجتماعية صوره بملابس السباحة ونشرتها بشكل هوليوودي، كما لو كان ممثلا شهيرا وليس مرشحا رئاسيا!
تلك الصور لا يزال كثيرون يعتبرونها الإعلان الحقيقي لترشيح أوباما الابن للرئاسة فهي التي قدمته عمليا للجمهور العريض من الأمريكيين وخاصة أولئك الذين لا يقرؤون الصحف التقليدية وإنما يتصفحون المواقع المجتمعية في الإنترنت أو الصحف الخفيفة أثناء التنقل من وإلى العمل. لقد وصل إليهم باراك أوباما قبل منافسيه بوقت كثير ما أتاح له اللعب براحة على بناء علاقاته بهم وخاصة لجهة الثقة به في الوقت الذي كان منافسوه يخاطبون النخبة ورؤساء مجالس إدارة الشركات.
من جهته، ماكين حاول استعادة صوره الفيتنامية من خلال وإعادة بث صور اسره في فيتنام، وباستثناء المحاولة التقليدية لإظهار نفسه أكثر نضارة من رجل في سن الثانية والسبعين، لم يبذل الرجل جهدا يذكر على صعيد تحسين أو تطوير صوره. لكن هنالك مجموعة من الصور التي أساءت له، فغالبية الصور الأرشيفية التي بثت له خلال الحملة كانت تظهره إما معترفا بهزيمته في انتخابات (ضد بوش في العام 2000، مثلا)، أو مع جمهوري آخر يعترف بهزيمته في الانتخابات (كما هي حال صورته الشهيرة مع المرشح الجمهوري بوب دول). لقد قدمته هذه الصور باعتباره رجلا مرتبطا بالخسارة وليس الفوز.
درسنا هنا بسيط.. الصورة الصحيحة، ووحدها الصورة الصحيحة، هي التي تساوي ألف كلمة.
لغة الجسد
لغة الجسد فن ليس حديثا، وله تطبيقات لا تعد ولا تحصى، لكن استخدامه في التسويق والعلاقات العامة والانتخابات أصبح عاملا لا مفر منه، وهو ما أكدته الانتخابات الأمريكية الأخيرة. من دراسة معظم خطابات أوباما وماكين أسجل للأول أنه نجح بشكل كبير في إدراك أهمية لغة الجسد والتعامل معها كوسيلة توصيل للرسائل للأفراد مباشرة، خاصة في إطار بناء الثقة. لاحظوا حركة اليدين، ووضعيات الوقوف والحديث، وطريقة الإلقاء وكل هذه العوامل التي جعلت باراك اوباما يبدو للكثيرين أقرب لهم وأكثر موثوقية من جون ماكين. وحين أقول استخدام لغة الجسد فإنني أذكر بأن كثير من المؤسسات الأمريكية تدرب موظفيها على اتقان لغة الجسد كجزء من منظومة التواصل التسويقي سواء لإرسال الإشارات التواصلية أو استقبالها.
وأشير هنا إلى واقعة مهمة ففي انتخابات عام 1984، طلب الرئيس الراحل ريغان من مستشاريه دراسة لغة جسد المرشحين الديمقراطيين الثلاثة اللذين كانوا يتنافسون لنيل ترشيح الحزب الديمقراطي ضده، وكانت نتيجة الدراسة أن أيا منهم لا يبدو ولا يتصرف "رئاسيا بما يكفي"، وهي النقطة التي ارتكز إليها ريغان في حملته الانتخابية ضد المرشح الديموقراطي والتر مونديل، وهزمه بها.
ترى، هل حان الوقت لشركاتنا أن تدرس طريقة تفاعل عملائها مع منتجاتها وماذا توحي به لغة أيديهم وتعبيرات وجوههم؟
منقول من موقع مكتوب اعمال
No comments:
Post a Comment